في دمشق، أو مدينة احتراق الآمال والتباس المعاني، تغدو عبارة "النجاة من الحرب" أقرب إلى سخرية لاذعة بطعم الوجع منها إلى عبارة تصوّر مشهداً حقيقياً لنجاة السوريين؛ ألهم في ألسنة بعض المحلّلين السياسيين والاجتماعيين على قنوات الإعلام "الوطني" أو إعلام النظام.
وبالرغم من أنّ أهالي دمشق المحلّيين يعيشون اليوم وضعاً معيشياً هو الأسوأ على الإطلاق منذ اندلاع الحرب السورية، غير أنّهم ما يزالون على رأس أعمالهم وفي منازلهم التي لم يطلها الدمار، بينما تبدو آثار الأزمة الاقتصادية الطاحنة جليّة على أُسر النازحين الذين لجؤوا إلى دمشق بعد أن دُمِّرت منازلهم وسُحقت أعمالهم في مدنهم الأصلية. فكيف تبدو نجاة النازح في العاصمة وطنه؟
شظف العيش.. وفوبيا اقتراب الشتاء
" نجاة! .. ههه الحمد لله يا بنتي على كلّشي" هكذا أجابت أمّ مهنَّد، نازحة من البوكمال إلى دمشق، ساخرةً من سؤالي الأخير حول قصّة نجاتها وأطفالها الثلاثة من المعارك التي دارت في مدينتهم البوكمال.
نَزحَتْ أمّ مهنّد إلى دمشق مصطحبةً أطفالها: مهنّد (6 أعوام) وفاطمة (7 أعوام) وبهاء (3 أعوام) بعدَ أن نُسفَ بيتها في قذيفة هاون متفجّرة في أثناء المعارك الدائرة بين النظام والجماعات المتشدّدة في البوكمال، وأصبح غير قابل للسكن، فتقول لموقع تلفزيون سوريا:
" لم أكن أتخيّل في عام 2014 أني سأغيب طويلاً عن منزلي، لذلك لم أجلب معي إلى هنا سوى بعض البَدَلَات للأطفال وأوراقنا الثبوتية، ولكن مضى الآن على خروجي من منزلي ستّة أعوام، وأنا منهكة تماماً."
وتضيف: "توفّي زوجي أثناء عمله على سيّارة أجرة في البوكمال بعدَ أن أصابته رصاصة طائشة في رأسه تماماً، ومنذ ذلك الحين وأنا أشغل دوري الأب والأمّ، إن الأمر شاق وخصوصاً من الناحية المادّية."
تسكن عائلة أمّ مهنّد في شقّة على العضم (غير مكسيّة) في منطقة كشكول؛ إحدى أكثر مناطق دمشق عشوائيةً. تعمل أمّ مهنَّد في مشغل للخياطة بالقرب من منزلها براتب 50 ألف ليرة، وتدفع من هذا الراتب شهرياً 35 ألف ليرة أو ما يعادل 15 دولارا كإيجار لهذه الشقّة، وفيما تبقّى من الأموال، ومع عملٍ إضافي في تنظيف المنازل، تعيل هذه الأمّ الجبّارة أطفالها وتربّيهم، فتحكي أمّ مهنّد:
" إنّ أكثر ما يعنيني ألّا يعيش الأطفال ما أعيشه أنا الآن، ولذا عليّ أن أحبّبهم في الدراسة وأن أرسلهم إلى المدرسة في كلّ صباح. غالباً ما يذهبون إلى مدرستهم من غير لفّات تسدّ جوعهم، ولكن في المقابل، وعندما يعودون، نقوم بتجهيز الغداء معاً وأضمن ألّا يغادروا مائدتهم إلّا وقد أتمّوا وجباتهم كاملةً.".
تبدأ أجمل ساعات النهار بالنسبة إلى مهنّد (6 أعوام) وفاطمة (7 أعوام) بعد عودتهما من المدرسة، حيث يجلس الأخوان أمام التلفاز ليتابعا أفلامهما الكرتونية المفضّلة، وعندما تنقطع الكهرباء يساعدان والدتهما في تحضير الغداء والعناية ببهاء صاحب الثلاثة أعوام.
ومع اقتراب الشتاء تبدأ المعاناة الحقيقية بالنسبة لأمّ مهنَّد، فتقول: "لا يمكن أن تدفأ لنا عظمة واحدة في هذا المنزل طوال الشتاء، فالغرف هنا عبارة عن جدران من البلوك غير المتراص وفيها العديد من المسارب التي لا يمكن سدّها بشكل يضمن دفئنا".
وتتابع "" ونادراً ما نتمكّن من شراء المازوت، هذا إن توفّر، وفي الغالب نستدفئ بواسطة مدفأة كهربائية صغيرة؛ فنتجمّع حولها في ظلّ وجود الكهرباء، وعندما تنقطع نقوم بلفّ أجسامنا ببطّانيات سميكة منحنا إيّاها الجيران غير مرّة في الشتاءات الماضية.".
تُستَدمَجُ المجلى في شقّة أمّ مهنّد مع المغسلة؛ فنرى فراشي الأسنان بالقرب من مسحوق الجلي على الرفّ الوحيد المثبّت في الحمّام، ولا يوجد حنفية ماء فوق المجلى ولكن برميل أزرق بمحاذاتها يمكن تعبئته من المطبخ كلّما انتهى. كما ولا يوجد بوتو غاز للطهي ولكن طبّاخ كهربائي متهالك تضطر أمّ مهنّد لصيانة أشرطته على الدوام. هذا بالإضافة لعشرات التفاصيل التي تعمّق معاناة هذه الأسرة النازحة منذ ما يزيد على ستّ سنوات.
لا عمل للمهجرين.. ووجبة واحدة في الأيّام العصيبة
بينما تحظى أمّ مهنّد بعملٍ ثابت وراتب مستقرّ؛ فإنّ أبو قاسم (51 عاماً)، مهجر من الغوطة الشرقية إلى التضامن-العاصمة دمشق، واحد من أولئك الذين لم يحالفهم الحظّ في العثور على عمل ثابت بعد نزوحهم من بلداتهم وقراهم؛ فيقول: "حاولت جاهداً، ساعة نزوحي وعائلتي، البحث عن عمل لإعالة أطفالي، إلا أنّ فرص العمل في دمشق كانت محدودة أو حتّى معدومة، وما زلت أسعى إلى هذه اللحظة لضمان الحدّ الأدنى من مستلزمات العيش الأساسية.".
لم ييأس أبو قاسم في رحلة بحثه عن العمل؛ فراح يقف رفقة العديد من الحمّالين (عمال تحميل البضائع) في الساحات العامّة ينتظرون في الحرّ والبرد فرصاً لنقل أثاث منزل ما من مكان إلى آخر، أو تعزيل أحد المناور المتروكة، أو المحال التي كانت مستودعاً فيما مضى. ولكن هذا لم يكن كافياً، فبحسب أبو قاسم: "تمرّ عليّ أيّام لا أستطيع فيها إطعام أطفالي حتّى. نتناول في الأيّام الصعبة وجبة واحدة وغالباً ما يكون قوامها الخبز والشاي أو في أحسن الأحوال الزعتر من غير زيت. وعندما لا أستطيع شراء جرّة الغاز اضطر إلى إشعال الحطب في "تنكة سمنة" معدنية، وتسخين الشاي عليها أو تحميص الخبز.".
يعيش أبو قاسم وعائلته، كما حال أمّ مهنّد، في شقّة غير مكسوّة فيها من العيوب ما يجعلها غير قابلة للعيش. وعن هذه العيوب يحدّثنا أبو قاسم: "أعطاني صاحب الشقّة وعوداً كثيرة بتمديد الكهرباء؛ لكنّها حتّى اليوم لا تصل شقّتي. أقوم أحياناً بسرقة خطوط الكهرباء ليلة أو اثنتين ما يسبّب لي مشكلات مع سكّان البناء والأبنية المجاورة لنا؛ ويجعلني أقضي وعائلتي أيّاماً وأسابيع لا نرى فيها الكهرباء".
إنّ مسألة السكن في شقق غير مكسوّة، لا تصلها الخدمات الرئيسية أحياناً (الماء، الكهرباء، المداخن .. إلخ)، تغدو لدى النازحين في دمشق من أبرز المشكلات التي يعانونها؛ لا سيّما في ظلّ ارتفاع جنوني لأسعار إيجارات العقارات المكسوّة التي تحول دون قدرتهم على استئجارها. ولكنّهم يتساءلون: لماذا لا تقدّم لنا حكومة النظام بدائلَ وحلولاً تعيلنا على تخطّي محننا السكنية منها والمعيشية؟ .
" ما بدي أدرس هون بدي أرجع على بيتنا"
لا يشكّل السكن في الشقق غير المكسوّة وتدنّي القيمة الشرائية للمعاشات المشكلات الوحيدة التي تعاني منها الأسر النازحة في دمشق؛ فعلى الجانب الآخر هناك ظاهرة تنمو بشكل اضطرادي بين أطفال النازحين، وهي التسرّب المدرسي؛ فكثير من العائلات، تقوم مكرهةً، على حمل أبنائها وبناتها على التخلّي عن دراستهم والبحث عن عمل للمساعدة في إعالة الأسرة.
ولميس (13 عاماً)، ابنة لأسرة نازحة من حمص إلى دمشق، واحدة من الأطفال الذين كانوا ضحية لهذه الظاهرة، فتقف الفتاة برفقة أولاد عمّها لساعات طِوال في ساحة العبّاسين بدمشق تبيع البسكويت حيناً وتتسوّل أحياناً أخرى، فتقول لميس: " نحن اتهجّرنا من بيتنا بحمص من أربع سنين، ومن وقتها وأنا بشتغل لساعد أمّي لأن أبي اتوفّى بالحرب.".
وعن شوقها لمدينتها والمدرسة تحكي لميس لموقع تلفزيون سوريا: "أكيد بشتاق للمدرسة، ولرفقاتي هنيك بس أنا ما بدي أدرس هون بدي أرجع عبيتنا ولحارتي لأدرس متل ما كنت هنيك."
لميس نموذج عن مئات ولربّما آلاف الأطفال الذين يُقْسَرُون على التسرّب المدرسي والعمل في دمشق يومياً؛ لأنّ لا حلّ أمامهم وأمام عائلاتهم سوى السعي خلف قوت يومهم في مدينة موحشة لا ترحم أحداً ولا تدع رحمة الله تنزل عليه، فلا مساعدات حكومية ولا تسهيلات سكنية ولا مخيّمات كأنّما هو موت بطيء يُغضّ الطرف عنه عن سابق قصد وإصرار.
كما وتشير إحصائية أجرتها منظّمة الأمم المتحدة في عام 2019، إلى أنّ نصف الأطفال السوريين بين سنّ الخامسة والسابعة عشر؛ أيْ ما يزيد عن 2،1 مليون طفل سوري يعانون من التسرّب المدرسي، وتشير أيضاً إلى أنّ 1،3 مليون من الطلّاب عرضة للتسرّب المدرسي مع حلول عام 2020\2021.